الوسطية بين الحقيقة والادعاء
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
الوسطية هي حقيقة دين الإسلام وهي المنهج الحق لهذه الأمة ، فهي وسط بين الأمم وسط بين غلو اليهود الذي استحقوا به الغضب من الله وبين ضلال النصارى ، وهي المنهج الذي وجب على المسلم الدعاء أن يهديه الله عليه في كل صلاة يؤديها لله سبحانه . وهي منهج هذه الأمة { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } . ومن هذه الوسطية العامة للأمة بين الأمم كان المنهج الحق هو منهج أهل السنة والجماعة الذين ساروا على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكانوا وسطاً بين الفرق الضالة ، وسطاً في باب الاعتقاد ، وسطاً في العبادات ، وسطاً في السلوك والآداب ، وسطاً في المواقف ، وسطاً في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وسطاً في باب الجهاد ، .. إلى آخر ذلك .
قال الشيخ عبد العزيز الجليل حفظه الله في كتابه : \" وكذلك جعلناكم أمة وسطاً \" :
(( نظرًا لبعدنا عن تدبر كتاب ربنا عز وجل وانشغالنا عن ذلك بمناهج بشرية جاهلة ظالمة؛ بعضها يضخم جانب العقل، والبعض الآخر يضخم جانب الروح، وبعضها يقدس أقوال الرجال وآراءهم، وغير ذلك من مصادر التلقي المنحرفة؛ كل ذلك نشأ عنه مناهج ومواقف معوجة غير متوازنة؛ بعضها ينزع إلى الغلو والإفراط، وبعضها ينزع إلى الجفاء والتفريط. والخير كله والعدل والشمول والتوزان موجود في كتاب ربنا عز وجل الذي: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42)
ولقد ظهرت في واقعنا المعاصر مواقف وأفكار مضطربة وغريبة على منهج الكتاب والسنة، ومخالفة لمنهج السلف الصالح أصحاب القرون المفضلة. مواقف من بعض المنتسبين والداعين إلى طريقة السلف الصالح؛ مما أدى إلى تشويه الحق أو لبسه بالباطل، كما أدى إلى مزيد من الفرقة والاختلاف بين أصحاب المنهج الحق الواحد.
ولقد ظهر في حياة كثير من الناس كثير من المخالفة لحد الاعتدال في هذا الدين - سواء إلى الغلو أو إلى التقصير . يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «وكلا طرفي الأمور ذميم، وخير الأمور أوسطها، والأخلاق الفاضلة كلها وسط بين طرفي إفراط وتفريط، وكذلك الدين المستقيم وسط بين انحرافين، وكذلك السنة وسط بين بدعتين»
وحصل في هذه الأزمنة المتأخرة فهم منحرف لمعنى الوسطية والأمة الوسط؛ حيث أصبحنا نقرأ ونسمع من بعض المنتسبين للعلم والدعوة تفسيرًا غريبًا لمفهوم الوسطية في هذا الدين يخالف المفهوم الشرعي الصحيح لهـا. وقد أثمـر هـذا المفهـوم المنحرف للوسطية عندهم إلى تمييع الدين وأحكامه وعدم أخذه بقوة وجد، وهذا بدوره أدى إلى بعض التنازلات في ثوابت هذا الدين وأخلاقه وقيمه؛ زاعمين أن هذا من الوسطية والمرونة والتيسير، وبخاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه الفساد وكثرت فيه الضغوط .
ثم ترتب على ذلك ظهور ما يسمى بأنصاف الحلول أو الحلول الوسطية من قبل بعض المشتغلين بالدعوة. ويقصدون بالحلول الوسطية أن لا يبقى الدعاة في مواقفهم المتصلبة القوية من الكفرة والطواغيت والبراءة منهم ومن شركهم؛ لأن مثل هذه المواقف لم تجر إلا الضرر على الدعوة والقضاء على أهلها، فكان لا بد من التنازل عن بعض هذه المواقف المتصلبة ومد الجسور مع أعداء الدعوة والاتفاق معهم على حلول وسط ينتفع منها الطرفان ويتنازل كل منهما للآخر ويسمون ذلك وسطية، ولا يخفى ما في هذه الممارسات من انحراف لمفهوم الوسطية عن معناها الشرعي الذي هو العدل والقسط المرضي لله تعالى، فهل التنازل عن جوانب من العقيدة أو الأحكام هو من صفات الأمة الوسط التي اختصها الله تعالى بسبب وسطيتها بالشهادة على الناس؟! وهل هذا التنازل هو ما يرضي الله تعالى؟!.
و في مقابل المفهوم المتميع للوسطية ظهرت بعض التفسيرات الغالية للوسطية؛ وذلك بتبرير بعض المواقف المتشددة الغالية بأنها من صفات الأمة الوسط المأمورة بأخذ الدين بقوة؛ مما نتج عنه مواقف ومعالجات خاطئة تضر بالأمة ومصالحها كثيراً ، وتجر إلى الفساد العريض . )) أ ــ هـ .
وبمقتضى هذه الوسطية الحق استحقت هذه الأمة الشهادة على الأمم كلها ، لأنها أمة الوسط والخيار ، ودينها ناسخ الأديان كلها وهو الدين الذي لا يقبل الله ديناً سواه ، الدين الذي ارتضاه الله لنا ديناً وأكمله وأتمه .
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيُقال لأمَّته: هل بَلَّغَكُم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، فتشهدون أنَّه قد بلَّغ، ويكون الرّسول عليكم شهيدًا فذلك قوله - جلَّ ذكره -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) والوسط: العدل)
2- وروى الطبري بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) قال: «عدولاً» .
ولست هنا في مجال الحديث عن وسطية الأمة لكنني أحببت أن أشير إلى مواقف شاذة في الطريق يزعم أصحابها الوسطية .
الوسطية عند بعض المهزومين تعني :
· التمييع لكثير من حقائق الدين وتعليماته .
· نسف مسلمات وثوابت في دين الأمة .
· فهم للنصوص فهماً مغلوطاً .
· الاستخذاء والانهزام أمام الأعداء .
· الاستسلام والرضوخ لواقع الذل والمهانة .
إن واقع الأمة المرير يحتاج إلى من يعود بها إلى حقيقة دينها لا إلى تركيعها لعدوها .و بفعل الواقع وضغوطه أوجد عند هؤلاء المهزومين مفاهيم مغلوطة لمعنى الوسطية ، فصوروا الإسلام بصورة الموضوع في قفص الاتهام ثم سعوا إلى التبرير والاعتذار عن الإسلام والدفاع عنه بنفسية المهزوم الضعيف الواقع في الخطأ . فهؤلاء يخجلون من كثير من تشريعات الإسلام ويرون أنها تسبب إشكالات كثيرة فهم :
يخجلون من ذكر الجهاد ويرون أنه يخالف معنى الوسطية الذي ارتسم في أذهانهم ، ولا يعرفون عن الجهاد إلا صورة مغلوطة مشوشة ضيقة الحدود . فتجدهم يخجلون ويحرجون عند تلاوة تلك النصوص الكثيرة التي تدعو الأمة إلى جهاد أعدائها ليكون الدين كله لله . ومن ثم يبدأون بالتأويل للنصوص حسب أفهامهم وأدمغتهم وما ينسجم مع أطروحاتهم ونظرياتهم ، معرضين عن منهج السلف في ذلك المفهوم .
وإذا كانت الأمة من الضعف والتفرق والبعد عن منهج الله في واقع حياتها فلا تستطيع جهاد الطلب وقد لا تتوفر شروطه ومقوماته في الأمة فلا يعني هذا الخضوع والاستخذاء أمام الأعداء وهجمتهم الشرسة على الأمة ، ولا يعني الضعف والخور أمام أطروحاتهم الباطلة .
إن من الجهاد جهاد الكلمة ورد الحجة بالحجة من منطلق شرعي مؤصل ليس من منطلق واقع الأمة ولا من واقع التفسية المنهزمة التي تصور وسطية الأمة بصورة الضعف والاستخذاء .
إن الوسطية تعني أخذ الدين بقوة وسلوك منهج النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام وسلف الأمة .
إن حقائق الدين ليست موكولة إلى اجتهادات خاطئة ولا نظرات يائسة ولا أطروحات ساذجة فقد أكمل الله الدين وأتمه { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } .
إن هؤلاء المهزومين نفسياً يخجلون من تشريعات الإسلام في قتل القاتل وقطع يد السارق ورجم أو جلد الزاني وحد شارب الخمر ويعتبرون ذلك مدخلاً للعدو للنيل من الإسلام فيحاولون جاهدين التبرير لموقف الإسلام في ذلك.
إن هؤلاء يخجلون من تشريعات الإسلام في الأسرة فيخجلون من نظام تعدد الزوجات في الإسلام ويسعون في تبرير خاطئ للحكمة التشريعية في ذلك .
هؤلاء يصورون الإسلام بصورة المسالم دائماً للأوضاع الكافرة فهم يساوونه بغيره من الأديان والملل ، فتجد ألفاظاً براقة لها رنينها ووقعها لدى السامعين أمثال ـ الإسلام دين التسامح ، الإسلام دين السلام ، الإسلام دين المساواة فهو دين المحبة والوئام ، كلمات معسولة هي من صفات هذا الدين بلا شك لكن في موضعها الصحيح الذي ترسم أطره نصوص الكتاب والسنة لا ما يتخيله المنهزمون .
الإسلام دين السلام بتشريعاته السمحة وتنظيماته الرائعة ، لكنه لا يعني ترك الحبل على الغارب للعدو يعمل ما يشاء ، سماحة الإسلام لا تعني أن يتطفل عليه منهزمون نفسياً يصورونه بصورة الضعف والمذلة . بل إن حقيقة الدين هي السعي الجاد من الأمة لإيصال هذا الدين إلى كل بيت وكل صقع ، فإذا ضعفت الأمة ولم تستطع أن تقوم بهذا الواجب فلا يعني ذلك أنه قصور في الدين بل هو تقصير ممن يحمل الدين .
ففي حديث تميم الداري ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل ، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر».
ومن هنا كان تشريع الجهاد واعتبرته الشريعة ذورة سنام الإسلام لأنه يسعى لإزالة الحواجز التي تقف بين دين الله الحق وبين الناس فلا يكون الدين كله لله .
والأمة اليوم لم تصل إلى درجة أن تحمل دينها وتوصله للآخرين العطشى لهذا الدين ، الأمة فيها من آلامها وضعفها وتفرق صفها ما يجعلها عاجزة عن تصور دينها الحق فضلاً عن حملها للرسالة ، عاجزة عن وحدة صفها أمام عدوها مما جعلها لقمة سائغة لأعدائها فأصبحت هدفاً لكل حاقد ومغرض حتى صدق عليها حديث الرسول : \" يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها ..... \" . فلا يعني هذا أن تشريعاً له أدلته وأحكامه وغاياته ألغي من قاموس الأمة . كما لا يعني أيضاً أن كل عمل يرتكب تحت هذا المسمى يكون جهاداً شرعياً صحيحاً .
فالمسلم يجب عليه أن يعتقد اعتقاداً جازماً لا تردد فيه أن دينه ليس كالأديان وأن أمته ليست كالأمم ، فأمته تحمل الحق الذي لا يوجد عند غيرها تحمل الدين الناسخ للأديان الدين الصحيح الذي رضيه الله ديناً للعباد . فمن الخطأ الكبير في فهم الوسطية أن نجعل ديننا وقيمه وأخلاقياته في مجال مقارنة للأديان الأخرى ، نحن أمة لها رسالة لخص رسالتها القائد المسلم والصحابي الجليل ربعي بن عامر أمام رستم قائد جيش الفرس . ( الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ) .فلا بد أن يسعى المسلمون لأن يصل دينهم إلى الآخرين بكل وضوح وبيان .
إن من المفاهيم المغلوطة للوسطية أن نجعل لها أطراً ليست من حقيقتها ، فمن أخطائنا في مفهوم وسطية الأمة أننا نتكلم دائماً بنظرة إقليمية ضيقة في قضايانا ، وننطلق من واقع ضيق لنعمم ذلك على الأمة ككل . وهذا الواقع رسمت حدوده وأطره ظروف ونظرات تناسب ذلك الواقع ولكن ليس بالضرورة أن تناسب كل الأوضاع وكل المجتمعات .
فنحن ـ للأسف ـ كثيراً ماً ننطلق في كلامنا وفتاوانا ونظرتنا من واقع إقليمي ضيق لنسحب ذلك على جميع أوضاع الأمة وواقعها .
إن من يعتدى عليه في أرضه وبلده وأهله وعرضه وماله قد شرع له في جميع القوانين أن يدافع عن نفسه مادام قادراً على ذلك ولا أعتقد أن هذا محل خلاف لدى العقلاء وقد نقل الإجماع على ذلك شيخ الإسلام . ولكن للأسف أن تجد من الأمة ممن يزعم الوسطية من يخالف ذلك ويناقش فيه . فتسمع أصواتاً تدعو هؤلاء إلى الاستسلام والركوع أمام العدو وتجرم فعلهم المشروع ضد عدوهم .
فالوسطية أن نؤمن بهذا الحق المشروع لهؤلاء كما أن الوسطية تعني عدم التبرير لمن أراد أن يخل بأمن مجتمعات آمنة لتكون برك دماء تحت مبررات لا أصل لها في واقع الأمر .
إن المجتمعات الآمنة يجب أن تحافظ على أمنها واستقرارها وأن تقوم بسد الذرائع التي تؤدي إلى خرم ذلك الأمن ، ومن سعى إلى الإضرار بذلك وجب الوقوف في وجهه ، فالوسطية تعني أن يفرَّق بين أعمال تخريبية في مجتمعات آمنة تترتب عليها آثار سيئة ومفاسد عظيمة ، وبين أعمال مشروعة كالتي في ـ فلسطين والعراق ـ تسعى إلى الوقوف في وجه المعتدي الكافر فهذه أعمال جهادية تحكمها ظروفها وواقعها . ومن الخطأ أن يحكم عليها من واقع غير واقعها . الوسطية لا تعني أن يفسح المجال للكفر أن ينشر ويذاع . الوسطية لا تعني أن يفتح المجال لصاحب الضلال أن يقول أو يفعل ما يخالف دين الأمة وثوابتها تحت مسمى البحث العلمي أو سماع الرأي الآخر .
الوسطية لا تعني أن يقر الباطل وأن ينشر وتفتح أمامه الأبواب باسم الحوار وسماع الآخرين . الوسطية لا تعني أن يقول كل صاحب هوى وضلال وفكر منحط ما يريد أن يقوله ثم يسكت على ذلك
وأخيراً : أقول إن حقائق الدين وأسسه وأصوله ليست حقاً مشاعاً لكل من أراد أن يقول فيها برأيه ، بل هي قضايا مؤصلة في دين الله واضحة جلية لأهل العلم الربانيين الذين يخافون الله في أمتهم فلا يسعون لتضييع الأمة بين ساكت عن الحق أو قائل بالباطل أو مجتهد في غير محل الاجتهاد . والله أسأل أن يهدينا سبل السلام وأن يردنا للحق والصواب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الوسطية هي حقيقة دين الإسلام وهي المنهج الحق لهذه الأمة ، فهي وسط بين الأمم وسط بين غلو اليهود الذي استحقوا به الغضب من الله وبين ضلال النصارى ، وهي المنهج الذي وجب على المسلم الدعاء أن يهديه الله عليه في كل صلاة يؤديها لله سبحانه . وهي منهج هذه الأمة { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } . ومن هذه الوسطية العامة للأمة بين الأمم كان المنهج الحق هو منهج أهل السنة والجماعة الذين ساروا على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكانوا وسطاً بين الفرق الضالة ، وسطاً في باب الاعتقاد ، وسطاً في العبادات ، وسطاً في السلوك والآداب ، وسطاً في المواقف ، وسطاً في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وسطاً في باب الجهاد ، .. إلى آخر ذلك .
قال الشيخ عبد العزيز الجليل حفظه الله في كتابه : \" وكذلك جعلناكم أمة وسطاً \" :
(( نظرًا لبعدنا عن تدبر كتاب ربنا عز وجل وانشغالنا عن ذلك بمناهج بشرية جاهلة ظالمة؛ بعضها يضخم جانب العقل، والبعض الآخر يضخم جانب الروح، وبعضها يقدس أقوال الرجال وآراءهم، وغير ذلك من مصادر التلقي المنحرفة؛ كل ذلك نشأ عنه مناهج ومواقف معوجة غير متوازنة؛ بعضها ينزع إلى الغلو والإفراط، وبعضها ينزع إلى الجفاء والتفريط. والخير كله والعدل والشمول والتوزان موجود في كتاب ربنا عز وجل الذي: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42)
ولقد ظهرت في واقعنا المعاصر مواقف وأفكار مضطربة وغريبة على منهج الكتاب والسنة، ومخالفة لمنهج السلف الصالح أصحاب القرون المفضلة. مواقف من بعض المنتسبين والداعين إلى طريقة السلف الصالح؛ مما أدى إلى تشويه الحق أو لبسه بالباطل، كما أدى إلى مزيد من الفرقة والاختلاف بين أصحاب المنهج الحق الواحد.
ولقد ظهر في حياة كثير من الناس كثير من المخالفة لحد الاعتدال في هذا الدين - سواء إلى الغلو أو إلى التقصير . يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «وكلا طرفي الأمور ذميم، وخير الأمور أوسطها، والأخلاق الفاضلة كلها وسط بين طرفي إفراط وتفريط، وكذلك الدين المستقيم وسط بين انحرافين، وكذلك السنة وسط بين بدعتين»
وحصل في هذه الأزمنة المتأخرة فهم منحرف لمعنى الوسطية والأمة الوسط؛ حيث أصبحنا نقرأ ونسمع من بعض المنتسبين للعلم والدعوة تفسيرًا غريبًا لمفهوم الوسطية في هذا الدين يخالف المفهوم الشرعي الصحيح لهـا. وقد أثمـر هـذا المفهـوم المنحرف للوسطية عندهم إلى تمييع الدين وأحكامه وعدم أخذه بقوة وجد، وهذا بدوره أدى إلى بعض التنازلات في ثوابت هذا الدين وأخلاقه وقيمه؛ زاعمين أن هذا من الوسطية والمرونة والتيسير، وبخاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه الفساد وكثرت فيه الضغوط .
ثم ترتب على ذلك ظهور ما يسمى بأنصاف الحلول أو الحلول الوسطية من قبل بعض المشتغلين بالدعوة. ويقصدون بالحلول الوسطية أن لا يبقى الدعاة في مواقفهم المتصلبة القوية من الكفرة والطواغيت والبراءة منهم ومن شركهم؛ لأن مثل هذه المواقف لم تجر إلا الضرر على الدعوة والقضاء على أهلها، فكان لا بد من التنازل عن بعض هذه المواقف المتصلبة ومد الجسور مع أعداء الدعوة والاتفاق معهم على حلول وسط ينتفع منها الطرفان ويتنازل كل منهما للآخر ويسمون ذلك وسطية، ولا يخفى ما في هذه الممارسات من انحراف لمفهوم الوسطية عن معناها الشرعي الذي هو العدل والقسط المرضي لله تعالى، فهل التنازل عن جوانب من العقيدة أو الأحكام هو من صفات الأمة الوسط التي اختصها الله تعالى بسبب وسطيتها بالشهادة على الناس؟! وهل هذا التنازل هو ما يرضي الله تعالى؟!.
و في مقابل المفهوم المتميع للوسطية ظهرت بعض التفسيرات الغالية للوسطية؛ وذلك بتبرير بعض المواقف المتشددة الغالية بأنها من صفات الأمة الوسط المأمورة بأخذ الدين بقوة؛ مما نتج عنه مواقف ومعالجات خاطئة تضر بالأمة ومصالحها كثيراً ، وتجر إلى الفساد العريض . )) أ ــ هـ .
وبمقتضى هذه الوسطية الحق استحقت هذه الأمة الشهادة على الأمم كلها ، لأنها أمة الوسط والخيار ، ودينها ناسخ الأديان كلها وهو الدين الذي لا يقبل الله ديناً سواه ، الدين الذي ارتضاه الله لنا ديناً وأكمله وأتمه .
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيُقال لأمَّته: هل بَلَّغَكُم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، فتشهدون أنَّه قد بلَّغ، ويكون الرّسول عليكم شهيدًا فذلك قوله - جلَّ ذكره -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) والوسط: العدل)
2- وروى الطبري بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) قال: «عدولاً» .
ولست هنا في مجال الحديث عن وسطية الأمة لكنني أحببت أن أشير إلى مواقف شاذة في الطريق يزعم أصحابها الوسطية .
الوسطية عند بعض المهزومين تعني :
· التمييع لكثير من حقائق الدين وتعليماته .
· نسف مسلمات وثوابت في دين الأمة .
· فهم للنصوص فهماً مغلوطاً .
· الاستخذاء والانهزام أمام الأعداء .
· الاستسلام والرضوخ لواقع الذل والمهانة .
إن واقع الأمة المرير يحتاج إلى من يعود بها إلى حقيقة دينها لا إلى تركيعها لعدوها .و بفعل الواقع وضغوطه أوجد عند هؤلاء المهزومين مفاهيم مغلوطة لمعنى الوسطية ، فصوروا الإسلام بصورة الموضوع في قفص الاتهام ثم سعوا إلى التبرير والاعتذار عن الإسلام والدفاع عنه بنفسية المهزوم الضعيف الواقع في الخطأ . فهؤلاء يخجلون من كثير من تشريعات الإسلام ويرون أنها تسبب إشكالات كثيرة فهم :
يخجلون من ذكر الجهاد ويرون أنه يخالف معنى الوسطية الذي ارتسم في أذهانهم ، ولا يعرفون عن الجهاد إلا صورة مغلوطة مشوشة ضيقة الحدود . فتجدهم يخجلون ويحرجون عند تلاوة تلك النصوص الكثيرة التي تدعو الأمة إلى جهاد أعدائها ليكون الدين كله لله . ومن ثم يبدأون بالتأويل للنصوص حسب أفهامهم وأدمغتهم وما ينسجم مع أطروحاتهم ونظرياتهم ، معرضين عن منهج السلف في ذلك المفهوم .
وإذا كانت الأمة من الضعف والتفرق والبعد عن منهج الله في واقع حياتها فلا تستطيع جهاد الطلب وقد لا تتوفر شروطه ومقوماته في الأمة فلا يعني هذا الخضوع والاستخذاء أمام الأعداء وهجمتهم الشرسة على الأمة ، ولا يعني الضعف والخور أمام أطروحاتهم الباطلة .
إن من الجهاد جهاد الكلمة ورد الحجة بالحجة من منطلق شرعي مؤصل ليس من منطلق واقع الأمة ولا من واقع التفسية المنهزمة التي تصور وسطية الأمة بصورة الضعف والاستخذاء .
إن الوسطية تعني أخذ الدين بقوة وسلوك منهج النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام وسلف الأمة .
إن حقائق الدين ليست موكولة إلى اجتهادات خاطئة ولا نظرات يائسة ولا أطروحات ساذجة فقد أكمل الله الدين وأتمه { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } .
إن هؤلاء المهزومين نفسياً يخجلون من تشريعات الإسلام في قتل القاتل وقطع يد السارق ورجم أو جلد الزاني وحد شارب الخمر ويعتبرون ذلك مدخلاً للعدو للنيل من الإسلام فيحاولون جاهدين التبرير لموقف الإسلام في ذلك.
إن هؤلاء يخجلون من تشريعات الإسلام في الأسرة فيخجلون من نظام تعدد الزوجات في الإسلام ويسعون في تبرير خاطئ للحكمة التشريعية في ذلك .
هؤلاء يصورون الإسلام بصورة المسالم دائماً للأوضاع الكافرة فهم يساوونه بغيره من الأديان والملل ، فتجد ألفاظاً براقة لها رنينها ووقعها لدى السامعين أمثال ـ الإسلام دين التسامح ، الإسلام دين السلام ، الإسلام دين المساواة فهو دين المحبة والوئام ، كلمات معسولة هي من صفات هذا الدين بلا شك لكن في موضعها الصحيح الذي ترسم أطره نصوص الكتاب والسنة لا ما يتخيله المنهزمون .
الإسلام دين السلام بتشريعاته السمحة وتنظيماته الرائعة ، لكنه لا يعني ترك الحبل على الغارب للعدو يعمل ما يشاء ، سماحة الإسلام لا تعني أن يتطفل عليه منهزمون نفسياً يصورونه بصورة الضعف والمذلة . بل إن حقيقة الدين هي السعي الجاد من الأمة لإيصال هذا الدين إلى كل بيت وكل صقع ، فإذا ضعفت الأمة ولم تستطع أن تقوم بهذا الواجب فلا يعني ذلك أنه قصور في الدين بل هو تقصير ممن يحمل الدين .
ففي حديث تميم الداري ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل ، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر».
ومن هنا كان تشريع الجهاد واعتبرته الشريعة ذورة سنام الإسلام لأنه يسعى لإزالة الحواجز التي تقف بين دين الله الحق وبين الناس فلا يكون الدين كله لله .
والأمة اليوم لم تصل إلى درجة أن تحمل دينها وتوصله للآخرين العطشى لهذا الدين ، الأمة فيها من آلامها وضعفها وتفرق صفها ما يجعلها عاجزة عن تصور دينها الحق فضلاً عن حملها للرسالة ، عاجزة عن وحدة صفها أمام عدوها مما جعلها لقمة سائغة لأعدائها فأصبحت هدفاً لكل حاقد ومغرض حتى صدق عليها حديث الرسول : \" يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها ..... \" . فلا يعني هذا أن تشريعاً له أدلته وأحكامه وغاياته ألغي من قاموس الأمة . كما لا يعني أيضاً أن كل عمل يرتكب تحت هذا المسمى يكون جهاداً شرعياً صحيحاً .
فالمسلم يجب عليه أن يعتقد اعتقاداً جازماً لا تردد فيه أن دينه ليس كالأديان وأن أمته ليست كالأمم ، فأمته تحمل الحق الذي لا يوجد عند غيرها تحمل الدين الناسخ للأديان الدين الصحيح الذي رضيه الله ديناً للعباد . فمن الخطأ الكبير في فهم الوسطية أن نجعل ديننا وقيمه وأخلاقياته في مجال مقارنة للأديان الأخرى ، نحن أمة لها رسالة لخص رسالتها القائد المسلم والصحابي الجليل ربعي بن عامر أمام رستم قائد جيش الفرس . ( الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ) .فلا بد أن يسعى المسلمون لأن يصل دينهم إلى الآخرين بكل وضوح وبيان .
إن من المفاهيم المغلوطة للوسطية أن نجعل لها أطراً ليست من حقيقتها ، فمن أخطائنا في مفهوم وسطية الأمة أننا نتكلم دائماً بنظرة إقليمية ضيقة في قضايانا ، وننطلق من واقع ضيق لنعمم ذلك على الأمة ككل . وهذا الواقع رسمت حدوده وأطره ظروف ونظرات تناسب ذلك الواقع ولكن ليس بالضرورة أن تناسب كل الأوضاع وكل المجتمعات .
فنحن ـ للأسف ـ كثيراً ماً ننطلق في كلامنا وفتاوانا ونظرتنا من واقع إقليمي ضيق لنسحب ذلك على جميع أوضاع الأمة وواقعها .
إن من يعتدى عليه في أرضه وبلده وأهله وعرضه وماله قد شرع له في جميع القوانين أن يدافع عن نفسه مادام قادراً على ذلك ولا أعتقد أن هذا محل خلاف لدى العقلاء وقد نقل الإجماع على ذلك شيخ الإسلام . ولكن للأسف أن تجد من الأمة ممن يزعم الوسطية من يخالف ذلك ويناقش فيه . فتسمع أصواتاً تدعو هؤلاء إلى الاستسلام والركوع أمام العدو وتجرم فعلهم المشروع ضد عدوهم .
فالوسطية أن نؤمن بهذا الحق المشروع لهؤلاء كما أن الوسطية تعني عدم التبرير لمن أراد أن يخل بأمن مجتمعات آمنة لتكون برك دماء تحت مبررات لا أصل لها في واقع الأمر .
إن المجتمعات الآمنة يجب أن تحافظ على أمنها واستقرارها وأن تقوم بسد الذرائع التي تؤدي إلى خرم ذلك الأمن ، ومن سعى إلى الإضرار بذلك وجب الوقوف في وجهه ، فالوسطية تعني أن يفرَّق بين أعمال تخريبية في مجتمعات آمنة تترتب عليها آثار سيئة ومفاسد عظيمة ، وبين أعمال مشروعة كالتي في ـ فلسطين والعراق ـ تسعى إلى الوقوف في وجه المعتدي الكافر فهذه أعمال جهادية تحكمها ظروفها وواقعها . ومن الخطأ أن يحكم عليها من واقع غير واقعها . الوسطية لا تعني أن يفسح المجال للكفر أن ينشر ويذاع . الوسطية لا تعني أن يفتح المجال لصاحب الضلال أن يقول أو يفعل ما يخالف دين الأمة وثوابتها تحت مسمى البحث العلمي أو سماع الرأي الآخر .
الوسطية لا تعني أن يقر الباطل وأن ينشر وتفتح أمامه الأبواب باسم الحوار وسماع الآخرين . الوسطية لا تعني أن يقول كل صاحب هوى وضلال وفكر منحط ما يريد أن يقوله ثم يسكت على ذلك
وأخيراً : أقول إن حقائق الدين وأسسه وأصوله ليست حقاً مشاعاً لكل من أراد أن يقول فيها برأيه ، بل هي قضايا مؤصلة في دين الله واضحة جلية لأهل العلم الربانيين الذين يخافون الله في أمتهم فلا يسعون لتضييع الأمة بين ساكت عن الحق أو قائل بالباطل أو مجتهد في غير محل الاجتهاد . والله أسأل أن يهدينا سبل السلام وأن يردنا للحق والصواب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .